منوعات

الرحل الرقميون في المكسيك .. كسب بالدولار وإنفاق بالبيزو

لما يربو عن سنتين، تعيش إيميلي جيمز، في منتجع جبلي في بويبلا ضواحي العاصمة المكسيكية. لم يكن في خطط هذه الشابة الأمريكية وهي في سن الثلاثين أن تنتقل للعيش نهائيا في مكسيكو، لكن إغلاق الحدود بعد تفشي جائحة كوفيد-19، بالتزامن مع رحلة سياحية لها في سواحل الخليج المكسيكي، دفعها إلى الاستقرار في المدينة.

إيميلي واحدة من آلاف “الرحل الرقميين” الذي يختارون مكسيكو ومدن أخرى، على نحو متزايد، للاستقرار والعمل عن بعد مع شركات عالمية في مجالات شتى. مكاتبهم في كل زمان ومكان، كل ما هم بحاجة إليه هو حاسوب محمول واتصال جيد بالأنترنت.

تعمل إيميلي الأمريكية من دالاس منذ استقرارها بالمكسيك في شركة عالمية للتكنولوجيا، ورغم دوامها الكامل تنعم هذه الشابة الثلاثينية، كما تؤكد في حديثها لوكالة المغرب العربي للأنباء، بمناخ دافئ وطبيعة آسرة بين جبال بويبلا، بعيدا عن صخب المدينة وضغط المكتب وبذلات العمل الضيقة. “أعيش في بلد حدودي مع بلدي وبتكلفة أقل، يمكنني زيارة عائلتي ويمكنهم زيارتي في المكسيك في أي وقت”.

سحر المدينة والعمل في شبه إجازة دائمة دافع إيميلي الوحيد للاستقرار في بويبلا، بل تؤكد أن راتبها الشهري بالدولار الأمريكي يكفي لتغطية تكاليف الإيجار والنفقات والادخار، وبدرجة أكبر بثلاث مرات من وضعها بالولايات المتحدة، وتتحدث أيضا عن فرص أكثر للابتكار وتطوير الذات في نظام مرن وقابل للتعديل وبمنأى عن الضغوطات.

“الراتب بالدولار والإنفاق بالبيزو” .. على غرار إيميلي، تجتذب مدن مكسيكية عديدة آلاف الرحل الرقميين سنويا، ولا سيما من الأمريكيين والكنديين ممن يبحثون عن تكلفة منخفضة للمعيشة ومعدل ضرائب أقل، ومنهم أيضا من يهوى استكشاف ثقافات وأنماط عيش جديدة عبر التنقل من بلد إلى آخر.

ووفق وزارة الشؤون الخارجية المكسيكية، فقد اختار 1.6 مليون مواطن أمريكي الانتقال إلى العيش في المكسيك في عام 2021، وحوالي 2.4 ملايين في سنة 2022، ويستقر معظمهم في مكسيكو وبعض المدن المحيطة وحتى بعض المدن الساحلية مثل يوكاتان وأكابولكو.

وتشير دراسة أنجزتها مجلة يوكاتان المكسيكية “Yucatan Magazine” إلى أن الموجة الجديدة للوافدين الأجانب إلى المكسيك، وخاصة من أمريكا وكندا، بمثابة “هروب” من تكاليف الحياة الباهظة في بلدانهم إلى ظروف مواتية للعيش، ومن بينها الظروف المناخية المعتدلة والسفر دون قيود.

وأبرزت دراسة المجلة أن موجة “الهروب” تأتي بعد موجة سابقة لـ”الاستكشاف” كانت مرتبطة بالجذب السياحي الكبير لغالبية مناطق المكسيك، بموازاة الانخفاض النسبي لتكاليف السفر والإقامة قياسا بوجهات سياحية مغايرة.

وعلى المستوى العالمي، كشفت دراسة أنجزتها “ديلي تلغراف” البريطانية أن حركة “الرحل الرقميين” ظهرت قبل سنوات، لكنها ازدهرت على نطاق واسع إبان الأزمة الصحية مع اضطرار ملايين الشركات والمؤسسات إلى اعتماد نظام العمل عن بعد، وظهور الوظائف الرقمية وازدهار الخدمات المالية الرقمية، التي استمرت حتى بعد الجائحة.

ويوجد حاليا قرابة 35 مليون من الرحل الرقميين في كافة أنحاء العالم، وتشير التقديرات إلى أن عددهم سيناهز المليار بحلول العام 2035.

امتعاض من “الاستعمار الحديث”؟ يثير التوافد الهائل للعاملين عن بعد، وخاصة الأمريكيين، المزيد من ردود الفعل العدائية في المكسيك، حسب ما أكدته رئيسة جمعية “ثقافتنا الأم”، مابيل غارسيا لوبيز، وهي جمعية مدنية تعنى بصون التراث وأنماط العيش، مبرزة أن البعض لا يتردد في الحديث عن شكل جديد من أشكال الاستعمار.

“هل أنت جديد في المدينة؟ هل تعمل عن بعد؟ أنت غير مرحب بك هنا ! هذا جزء من بعض الملصقات في شوارع بالعاصمة المكسيكية، توضح المتحدثة لوكالة المغرب العربي للأنباء، وتشير إلى أن العديد من سكان المدينة ولا سيما الطبقات الفقيرة باتوا يشتكون من التوافد المتزايد للرحل الرقميين.

وعزت الفاعلة المدنية هذا الامتعاض إلى الارتفاع الكبير لكلفة الإيجارات السكنية والانخفاض الحاد في العرض قياسا بالطلب، حيث إن ثلث سكان مكسيكو اضطروا إلى الانتقال للعيش في مدن أخرى لهذه الأسباب، علما بأن 40 بالمائة منهم يوجدون تحت خط الفقر.

وأشارت أيضا إلى “غزو ثقافي” محتمل لهذه الحركة، التي تؤسس لنمط جديد في العيش والنسيج الاجتماعي، قد يؤدي في السنوات القليلة المقبلة إلى اندثار ثقافة وأنماط عيش السكان الأصليين للمكسيك، المهددة في الأساس، ويمكن اعتبارها أيضا “هجرة من نوع خاص”.

كما تطرح، بحسب المتحدثة، إشكاليات أمنية عديدة على نطاق واسع. ويتعلق الأمر هنا بتوالي حوادث وفيات أجانب انتقلوا حديثا للإقامة في المكسيك، ومن بينهم من يزاول عمله عن بعد ويتخذ من مواقع الإيجار العالمية سكنا مؤقتا أو على المدى المتوسط.

وتؤسس حركة “الترحال الرقمي”، وفق دراسة نشرتها الجامعة الإيبيرية الأمريكية بمكسيكو، لنمط اقتصادي جديد يرتبط في جزء كبير منه بالمزايا التي تتيحها شبكة الأنترنت، ويمهد الطريق أيضا لنمط جديد للعيش والتنظيم الاجتماعي، ويرتبط لدى الكثيرين بمستوى الإنتاجية والدخل أو الفرص التي توفرها السوق الرقمية الشاسعة على الصعيدين المهني والإنساني.

وأبرزت الدراسة أن إغلاق الحدود لمدة عامين واعتماد نظام العمل عن ب عد بسبب الظروف التي رافقت الجائحة، ساهم في لفت انتباه الكثير من الشباب ممن تقل أعمارهم عن 45 سنة للفرص الممكنة من خلال العمل عن بعد كنمط وأسلوب حياة بالنسبة لهم.

تختلف دوافع “الرحل الرقميين” وتتباين أيضا ردود الفعل إزاء هذه الحركة، لكن يكاد لا يختلف اثنان أن الوباء غير بشكل جذري تصور التواصل والعمل، كيف ومن أين نقوم به. ت طرح أيضا أسئلة عديدة عما إذا كانت الظاهرة بداية حقبة جديدة في النظام الاقتصادي العالمي أم مجرد فقاعة عابرة.

بذهن إيميلي تدور هذه الأسئلة وغيرها، وهي بصدد التحضير للمشاركة في تجمع إقليمي بمنتجع ساحلي جنوب المكسيك (حضوري هذه المرة) للرحل الرقميين. قد لا تبحث عن أجوبة مقنعة الآن بقدر ما تتوق لتكون جزءا من تجربة عالمية غير مسبوقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *